هذه السورة حادة الملامح ، عنيفة المشاهد ، شديدة الايقاع ، كأنها سياط لاذعة من نار . وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة ، حيث يواجه سيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات ، كالسهام المسنونة !
وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة ، وحقائق الكون والنفس ، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض . وعقب كل تعرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ).
مقاطع من السورةتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة ، متعددة القوافي . كل مقطع بقافية . ويعود السياق أحياناً إلى بعض القوافي مرة بعد مرة . ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص ، وعنفها الخاص . واحدة إثر واحدة . وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر ، بنفس العنف وبنفس الشدة .
ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة : ( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا*إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) .. وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام . وكل مقطع من مقاطع السورة العشرة بعد هذا المطلع ، يمثل جولة أو رحلة في عالم ، تتحول السورة معه إلى مساحات عريضة من التأملات والمشاعر والخواطر والتأثرات والاستجابات . أعرض بكثير جداً من مساحة العبارات والكلمات ، وكأنما هذه سهام تشير إلى عالم شتى !
[عدل] الجولة الأولىتقع في مشاهد يوم الفصل . وهي تصور الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض ، وهي الموعد الذي تنتهي إليه الرسل بحسابها مع البشر : ( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لأَيِّ يَوْمٍ أُجلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ )
[عدل] الجولة الثانيةوالجولة الثانية مع مصارع الغابرين ، وما تشير إليه من سنن الله في المكذبين : ( أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ )
[عدل] الجولة الثالثةوالجولة الثالثه مع النشأة الأولى وما توحي به من تقدير وتدبير : ( أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ )
[عدل] الجولة الرابعةوالجولة الرابعة في الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتاً ، وقد جهزت لهم الاستقرار والماء المحيي : (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا * وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ )
[عدل] الجولة الخامسةوالجولة الخامسة مع المكذبين وما يلقونه يوم يوم الفصل من عذاب وتأنيب : ( انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ) .
[عدل] الجولة السادسة والسابعةوالجولة السادسة والسابعة استطراد مع موقف المكذبين ومزيد من التأنيب والترذيل : ( هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ * فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ )
[عدل] الجولة الثامنةوالجولة الثامنة مع المتقين ، وما أعد لهم من نعيم : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ) ..
[عدل] الجولة التاسعةوالجولة التاسعة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التأنيب : ( كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ )
[عدل] الجولة العاشرةوالجولة العاشرة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التكذيب : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ )
[عدل] الخاتمةوالخاتمة بعد هذه الجولات والاستعراضات والوخزات والايقاعات : ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ )
وفي هذه السورة جدة في مشاهد جهنم وجدة في مواجهة المكذبين في أسلوب العرض والخطاب كله . ومن ثم تبرز شخصية خاصة للسورة . حادة الملامح . لاذعة المذاق . لاهتة الايقاع !