السورة في مجموعها هتاف رخي ندي إلى الطاعة، والالتجاء إلى الله، وابتغاء رضاه، وتذكر نعمته، والإحساس بفضله، واتقاء عذابه، واليقظة لابتلائه، وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء...
وهي تبدأ بلمسةرقيقة للقلب البشري : أين كان قبل أن يكون ؟ من الذي أوجده ؟ ومن الذي جعله شيئاً مذكوراً في هذا الوجود ؟ بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود : (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا ؟)
تتلوها لمسة أخرى من حقيقة أصله ونشأته، وحكمة الله في خلقه، وتزويده بطاقاته ومداركه : (إنا خلقنا الأنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا)
ولمسة ثالثة عن هدايته إلى الطريق، وعونه على الهدى، وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختاره : (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)..
وبعد هذه اللمسات الثلاث الموحية، في القلب من تفكير عميق، ونظرة إلى الوراء، ثم نظرة إلى الأمام، ثم التحرج والتدبر عند اختبار الطريق.. بعد هذه اللمسات الثلاث تأخد السورة في الهتاف للإنسان وهو على الطريق لتحذيره من طريق النار.. وترغيبه في طريق الجنة بكل صور الترغيب، وبكل هواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم : (إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالأً وسعيرا. إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا).
وقبل أن تمضي في عرض صور المتاع ترسم سمات هؤلاء الأبرار في عبارات كلها انعطاف ورقة وجمال وخشوع يناسب ذلك النعيم الهانئ الرغيد : (يوفون بالنذر، ويخافون يوماً كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام - على حبه -مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاء ولا شكورا. : إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا)
ثم تعرض جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف، الخائفين من اليوم العبوس القمطرير، الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام، يبتغون وجه الله وحده، لايريدوم شكوراً من أحد، إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير !
تعرض جزاء هؤلاء الخائفين الوجلين المطعمين المؤثرين. فإذا هو الأمن والرخاء والنعيم الرغيد (فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نضرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا. متكئين فيها على الأرائك لايرون فيها شمسا ولا زمهريرا. ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا. ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير، قوارير من فضة قدروها تقديرا. ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا، عيناً فيها تسمى سلسبيلا. ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤ منثورا. وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيرا. عليهم ثياب سندس خضر واستبرق، وحلو أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا)
فإذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد الهانئ الودود، اتجه الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -_لثبيته على الدعوة - في وجه الإعراض والكفر والتكذيب - وتوجيه إلى الصبر وانتظار حكم الله في الأمر، والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريق : (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا. فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفورا. واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا)..
ثم تذكيرهم باليوم الثقيل الذي لايحسبون حسابه، والذي يخافه الأبرار ويتقونه، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله، الذي خلقهم ومنحهم ماهم فيه من القوة، وهو قادر على الذهاب بهم، والإتيان بقوم آخرين، لولا تفضله عليهم بالبقاء، لتمضي مشيئة الابتلاء. ويلوح لهم في الختام بعاقبة هذا الابتلاء : (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلا. نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا. إن هذه تذكرة فمن شاء اتخد إلى ربه سبيلا. وما تشاءون إلا أن يشاء الله، إن الله كان عليماً حكيما. يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليما)..