هذه السورة الصغيرة تحتشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثرات والصور والمشاهد ، والايقاعات واللمسات ، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلت منه .. تحشدها بقوة ، في أسلوب خاص ، يجعل لها طابعاً قرآنياً مميزاً ، في أسلوب الأداء التعبيري ، أو أسلوب الأداء الموسيقي ، حيث يجتمع هذا وذاك على إيقاع تأثير شعوري قوي ، تصعب مواجهته ويصعب التفلت منه .
إنها في الآيتين الأوليين منها بايقاع عن القيامة ، وإيقاع عن النفس : ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) ..ثم يستطرد الحديث فيها متعلقاً بالنفس ومتعلقاً بالقيامة ، من المطلع إلى الختام ، تزاوج بين النفس وبين القيامة حتى تنتهي . وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة . أو كأنه اللازمة الايقاعية التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة ، بطريقة دقيقة جميلة ..
من تلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها السورة في مواجهة القلب البشري ، وتضرب عليه حصاراً لامهرب منه ... حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي ، فلا يملك لها رداً ، ولا يملك لها ممن حوله دفعاً . وهي تتكرر في كل لحظة ، ويواجهها الكبار والصغار ، والاغنياء والفقراء ، والأقوياء والضعاف ، ويقف الجميع منها موقفاً واحداً .. لاحيلة . ولا وسيلة . ولاقوة ، ولا شفاعة . ولادفع . ولا تأجيل .. مما يوحي بأنها قادمة من جهة عليا لايملك البشر معها شيئاً . ولا مفر من الاستسلام لها ، والاستسلام لإرادة تلك الجهة العليا .. وهذا هو الإيقاع الذي تمس به السورة القلوب وهي تقول : ( كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ ، وَقِيلَ : مَنْ رَاقٍ ؟ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ . وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ .. لَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ) ..
ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة ، حقيقة النشأة الأولى ، ودلالتها علة صدق الخبر بالنشأة الأخرى ، وعلى أن هناك تدبيراً في خلق هذا الإنسان وتقديراً .. وهي حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة ، لايقدر عليها إلا الله ولا يدعيها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها ، فهي قاطعة في أن هناك إلهاً واحداً يدير هذا الأمر ويقدره ، كما أنها بينة لاترد على يسر النشأة الآخرة ، وايحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة ، تمشياً مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى ، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب .. وهذا الإيقاع الذي تمس به القلوب وهي تقول أولها : ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ؟ ) ثم تقول في آخرها : ( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ؟ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ؟ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ؟ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى ؟ ) ...
ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة ، وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية .. مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية ، ومن اضطرابات نفسية ، ويجيء الرد عن تساؤل الإنسان عن يوم القيامة في إيقاعات سريعة ، ومشاهد سريعة ، وومضات سريعة : ( بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ . يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ؟ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ، يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ : أَيْنَ الْمَفَرُّ ؟ كَلاَّ ! لا وَزَرَ ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ، يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ . بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ! )
ومن هذه المشاهد مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم ، المتطلعين إلى وجهه الكريم في ذلك الهول . ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة با الله، والرجاء فيه المتوقعين عاقبة ما أسلفوا من كفر ومعصية وتكذيب وهو مشهد يعرض في قوة وحيوية كأنه حاضر لحظة قراءة القرآن ، وهو يعرض رداً على حب الناس العاجلة واهمالهم للآخرة ، وفي الآخرة يكون هذا الذي يكون : ( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ، وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ . وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ، تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ! )
وفي ثنايا السورة وحقائقها تلك تعترض أربع آيات توجيهاً خاصاً للرسول – صلى الله عليه وسلم – وتعليماً له في شأن تلقي هذا القرآن فجاء هذا التعليم : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ )
وهكذا يشعر القلب – وهو يواجه هذه السورة أنه محاصر لايهرب . مأخود بعمله لايفلت . لاملجأ له من الله ولا عاصم . مقدرة ونشأته وخطواته بعلم الله وتدبيره ، في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر : ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) ...
وفي مواجهة تلك الحشود من الحقائق والمؤثرات واللمسات يسمع التهديد الملفوف : ( أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى . ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ) فيكون له وقعه ومعناه !
وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه وإصراره ولهوه . وتشعره بالجد الصارم الحازم في هذا الشأن ، شأن القيامه ، وشأن النفس ، وِشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق . ثم شأن القرآن الذي لايخرم منه حرف لأنه من كلام العظيم الجليل ، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكلماته ، وتثبت في سجل الكون الثابت ، وفي صلب هذا الكتاب الكريم .